عبء الاستثناء

ذات أمسية مضينا في رحلة في النيل، بعدما توسطنا النهر العريض، واستسلم مركبنا لتياره متهاديا، قررت وعمر –أخي الأصغر- الانتقال إلى مقدمة المركب الشراعي، جلسنا وأطلقنا أرجلنا لتتدلى أقدامنا فوق النيل، فلم يلبث أخي حتى وضع قدميه ويديه بشكل غريب، كمن تموضع خلف مقود سيارة، وقال مازحا: سأحاول أن أدعي قيادة سيارة بناقل حركة عادي. فانفجرت ضاحكة! دنا منا أبي يسأل ما الذي يضحكني فحكيتُ له، حينها عقّب عمر متهكما: غدا سأقول لأبنائي أني تعلمت قيادة السيارة بـ”الجير” العادي فوق النيل، فهل تستطيعون فعل ذلك!

في هذه اللحظة تماما تذكرت نصا وعدت نفسي أن أكتبه يوما، نصٌ لم أعرف يوما كيف سأبدأه، لكنّي لطالما عرفت كيف سأشعر عندما أنهيه، أو ربما كيف تمنيت أن أشعر عندما أنتهي منه، لا فرق، المهم أني لطالما آمنت بحاجتي إليه، فهاكُمُ – أو فهاني – نصّي.

لا تُثقِلوا أبناءكم بعبء الاستثناء، إن كنتَ يا أبُ قد أمضيتَ عمركَ استثناءً بينَ أبناءِ سنّكَ، فما من شيء يحتّم على أبنائك أن يصبحوا الاستثناء بين أبناءِ سنّهم. إن كنتِ يا أمّ و يا جدّة استثناء في تعاملكِ مع كلّ ظروف وصعاب الحياة فهي قدرة شخصيّة لن تستطيعي تمريرها لابنتك أو حفيدتك لمجرد أنّك أردت.

هناك غالبية يعيشون باعتيادية وطبيعية بحتة، يتفاعلون مع كل ما يمرّون به تفاعلا قياسيا، تفاعلا نموذجيا، تفاعلا إن فتحتَ كتبَ علم النفس وجدته معنونا بالتصرف الشائع، أو الرائج، أو الطبيعي، أو أي عبارة أخرى تدلّ على طبيعيته وخضوعه لكل فرضيّات الفعل وردّ الفعل.

يقول علم النفس أن الطفلَ الذي ينشأ في بيئة غير سويّة، بيئة مضطربة مؤذية، ينشأ طفلا غاضبا ناقما على أسباب الاضطراب، وإن لم يُعامَل معاملة صائبة برغم ظروفه المحيطة فلن يكون من السهل انتشاله من دوامة الغضب والأذى، ولن يكون من السهل عليه التوازن لاحقا. هذا طفل نموذجي، طفل إن فتحت الكتاب وجدته في صفحاته، طفل قياسي، يخضع للقواعد العامة، وليس جرما أن يكونَ الطفل كذلك.

الجرمُ أن يحمّل الطفلُ الغضّ هذا عبء الاستثناء، أن يُطلبَ منه أن يصلحَ وحده ما فسدَ فيه، ألا يحاولَ أحد مساعدته.

كما هنالك أشخاص خارقون، مختلفون، مميزون، استثنائيون!

أشخاص عاشوا بفقر فاستمدوا منه حافزا لينجحوا، أو عاشوا بظلم فبنوا مبادئ العدل لحياتهم، أو ضُرِبوا فعطفوا، أو كُسِروا فنجحوا، أو أو أو ، و ألف أوٍّ و أو ، وكلّهم استثناء.

في كثير من حواراتي مع جدّتي كانت تقول لي بادري أنتِ، افعلي أنتِ، غيّري أنتِ، وتحكي لي كيف استطاعت هي أن تكون الاستثناء، أن تغيّر ما حولها لتحيا، هي استثناء، أما أنا فلستُ إلا فتاة عادية، لم يرافقني يوما الاستثناء، ولستُ أتمنّاه لأنّي بعكس جدّتي لا أجدُ فيه حياة بل هلاك!

الاستثناءُ لا يُلقّن ولا يُصنع ولا يُورّث، فكفانا غضبا من بعضنا لكوننا طبيعيّين، لو كان المفترض أن يكون كلّ الناس استثناء لما لاحظنا وجود الاستثنائيين!

دانة عكل

22/7/2018م

نهر النيل مساء من كوبري الجامعة، يوليو 2018

تعليق واحد على “عبء الاستثناء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.