ليتني لم أكبُر

قبل اثني عشرة عاما غادرت سوريا دون عودة ، وقبل ست سنوات ونصف اندلعت الثورة فثرت ، كنت أهتف للوطن ، أتألم للوطن ، أغضب و أثور للوطن ، ظننتني أعرف الوطن!
تعارفنا على أن الوطن تلك البلاد التي ننتمي إليها ، تلك المدينة التي ولد فيها أجدادنا ، تلك الشوارع والحارات ، و الجدران والأرصفة ، والسماء والهواء وكل تلك المعالم.
ظننا أن الوطن خالة أمّي التي دلّلتنا ، و أخت جدّي التي أحبّتنا ، و خال أبي الذي يلاعبنا ، و ابن العمّة الذي يمازحنا ، و هذه و ذاك ، وأقرباء و أحباب ، ومنازل ولقاءات ، وسهرات ومسامرات ، هكذا فهمنا الوطن!
قبل بضع سنوات ، كان حديث العائلة منزل جدّي في الرياض ، هذا المنزل الذي كبرت فيه أمّي ، وكبرنا فيه من بعدها ، المنزل الذي سكنَ قلبَ جدّي طيلة عقود ، منزلٌ رعى أفراحنا و أحزاننا ، في كلّ ركن فيه أريج ذكرى حبيب ، ضمّنا صغارا وكبارا ، ولكثرتنا اتسع ضيقه فقضينا ليالي في غرفة واحدة !
وبعد كلّ هذه السنين ، طلبَ الزمانُ دار جدّي ، التفت إليه يطلبهُ الرحيل ، فلم يقوَ جدّي فراق الدار ، ظلّ يقلّب الكف ، ويرسلُ البصر في مدى العمرِ ، يعاتبه ، يؤنّبه ، يسائله ، كيف له أن يعذّبه بدياره ؟! وكان الكل يوقن أنّ الزمان لم يخطئ ، فليس التملك بطول البقاء.
مرضَ جدّي ذات يوم ، ورأيتُ جدّتي تبكي بجوارِ رأسه ، ممسكةً يمينهُ بيمينها ، عاكفة عليه ترقيه ، وتمسح بكفّها رأسهُ ، وصوتها يرتجف.
مرض جدّي عقب رفضه تركَ بيته الدافئ ، فأثلجت جدران البيت لغيابه ، انطفأت صباحاته ، وطالت لياليه ، وطلبته حديقته كالماء.
مرضَ جدّي وطالت غيبوبته ، وحين فتح عينيه بلا صوتٍ كان يطلبنا أن نحدّثه ، ودون أن يسأل طمأنت جدّتي قلبه أنها قد رعَت داره ، وأنها هيّأتها لعودته ، لكنّه لم يعُد إليها كما عهدَته!
عاد جدّي لحديقته علّها تفيهِ وتسقي روحه كما سقاها ، فينتعش إدراكه ويُزهر ، وكان جدّي يشبه نفسه يوما ، ويغترب عن نفسه أياما ، كان يقف في فضاء الحياة تائها ، إلا عن داره !
اليوم ، يرحل جدّي عنا و عن داره ، ترافقه جدّتي بصبرها المعهود ، بعطائها الدافق ، بقلبها الكبير ، ونبقى خلفهما مودّعين !
اليوم يُغلقُ باب الدار ، وقلوبنا تُتخم بالمشاعر ، نقف حائرين أيهما نودع ، الدار أم مغادريها ، وينفطر القلب بينهما ، ويدمع.
وطني جدّي وداره ، جدّتي وغرفتها ، وطني حديقته الغنّاء ، وغنائي وابنة خالتي في أرجوحتها ، وطني درج المنزل و ” صحن السبت والأحد*”. وطني رائحة ” تحميص الملوخية ” التي لطالما اجترتني من سرير جدتي صباح الخميس فهرعت إلى المطبخ بأعين لا تزال تحتضن النوم. وطني هدير مكيّف غرفة خالاتي وستارتها ذات النقوش البنّية. وطني صوت جدّي مناديا بنا إلى الصلاة ، ترتيله القرآن وإطالته الجلوس قبيل السلام. وطني عمل جدّي بين أدواته ومعداته ، وقفازه الأبيض ومرطّب يديه الأحمر. وطني قلبُ جدّتي التي أجلستني بجوارها وهي تشرح الدروس لطالباتها ، تعلّمهنّ النحو والأدب ، وتعلّمني رسم قطّة أو أرنب. وطني دفءُ قلبِ جدّي وهو يضبط “الصّوبّة*” في الغرفة الخالية ، يخبرني أنها ستحتاج قليلا من الوقت لتدفأ ، ويعود عقب ساعة ليتأكد أني نمت بدفء.
وطني أكثر بكثير من أن يُسْرَد ، هو كلّ ضحكة ودمعة كانت في تلك الدار ، رعتها أعين جدّي وجدّتي ، حفظتها قلوبهما ، وأعادتها حبا وحنانا.
يومَ أمسٍ كنت أجول في دار جدّي ، أقلّب نظري في غرفِه ، هنا جلست جدّتي تقشّر البرتقال لتطعمنا ، وجلستُ بجوارها مسندة رأسي إلى كتفها ، وأصابعي تلاعب حبات اللؤلؤ التي زيّنت ثوبها الباذنجانيّ اللون.
وهنا أفرغَ جدّي حقيبته ذات عودة من الإمارات ، أخرجَ علبةً غريبة ، والتففنا حوله بفضول ، ثم أخرج منها كاميرا أصغر مما ألفنا ، وراح يحدّثُ الكبار عنها ، ونحن نتأمّلها بذهول.
هنا جلست جدّة أمّي تلفّ سجائرها وتنهرنا إذا حاولنا لمس علبة التبغ ، تخبرنا أننا صغار ، وترسلنا لنجمع الأوراق اليابسة.
وهنا رأيتُ فستان عرسِ خالتي لأوّلِ مرّة ، أصغر خالاتي التي خاطت طرحة فستاني لعرسِ أختها الأكبر قبل خمس عشرة عاما أو أكثر.
رأيتُ كل فرحة وحزن منقوشة على جدران غرفه ، رتّبت دامعة سريرا اعتدت النوم فيه مطمئنة القلب قريرة العين ، رحلتُ عن الدارِ التي اعتدت الهرع إليها في كلّ أمر ، كلّما اشتريتُ فستانا ، وكلّما حقّقتُ إنجازا ، كلّما تغيّر في حياتي شيءٌ ، وكلّما تعسّر عليّ أمر ، دخلتها رضيعة ، حبوتُ فيها ، مشيت في حديقتها ، نمت ولعبت ، ضحكت وبكيت ، خفت واحتميت ، أخطأت وتعلمت ، ثمّ كبرت ، دخلتها يوم تخرجي من المدرسة ، ودخلتها يوم عودتي من تركيا ، دخلتها يوم حصلت على عمل ، ومنذ بضعة أشهر دخلتها عروسا وجدي يدندن لي ، وجدتي تدعو لنا بالخير.
كبرتُ في تلك الدار ، بقلبَيْ جدّي وجدّتي ، واليوم أودّعهما وقلبي يتمتم ” ليتني يا جدّي أملك العمر لأعيده ، ليتني أملك العمر لنعود إلى دارك ، ليتني يوما لم أكبر “.
ودّعتهم ، وجدّتي تهمسُ لي : ” طمنيني اش بصير معك دايما ” ، حينها فقط شعرتُ باليُتم ، تمنّيت لو أنني لا أغادر حضنها ، حينها فقط علمت أني بعدُ لم أكبرْ!

19-سبتمبر-2017

———-
* صحن السبت والأحد: في بيت جدّي صحون فيها رسمة واسم يوم من أيام الأسبوع ، اعتدنا تسميتها صحون السبت والأحد.
*الصوبة: الصوبيا أو المدفأة.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.