زيارة جدّي

كما ابنة الثالثة عشر، فقيرة التجربة بالزراعة، ضربت المعول في التربة مرتين عبثا قبل أن أحدث أثرا، فسمعت صوته في أذني : ” استني، طولي بالك شوفي اش رح اعملك، رح احفرلك انا شوي شي نوصل للتراب الرطب هيك بصير أسهل عليك”، وكما جئته شاكية باكية عشرات وربما مئات المرات في حياته، وجدتني – مجددا – أخرّ باكية بجوار القبر..

كنت في الثالثة عشر عندما ذكرت معلمتي طريقة زرع البطاطا واعتزمت تجربتها، في عطلة نهاية الأسبوع ذهبنا لبيت جدي، وكان جدي يحب الزرع ويرعاه كأبنائه، جئته بشوق طفولي أحدثه عن رغبتي في زرع البطاطا بجوار أشجاره، قال: ” بس يا جدي البطاطا ما بتنزرع عندي، ما بتطلع” ، ألحّيت، رجوته كثيرا حتى كادت دموعي تنهمر، فابتسم بحنوّ وهتف: ” امشي نجرب، رح ازرعلك ياها واسقيها كل يوم لتصير أكبر شجرة بطاطا بالعالم”
خرجنا إلى الحديقة بحبة بطاطا مليئة بالبراعم، أعطاني جدي المعول وأرشدني لأبدأ الحفر، ضربت الضربة الأولى دون نتيجة، أمرني أن أضرب أقوى، ضربت بضع أخر دون أثر، فقال: ” استني، طولي بالك شوفي اش رح اعملك، رح احفرلك انا شوي شي نوصل للتراب الرطب هيك بصير أسهل عليك “، أكملت بعده بفرح العالم كله، وترقبتُ النتيجة بصبر نافد، لكن كما أخبرني جدّي، حديقته ليست للبطاطا فجدي لا يكذب.
بعد سنوات من تجربة البطاطا، دهسنا قطة بسيارتنا دون قصد قبيل الإفطار في رمضان، أصررتُ على دفنها برغم إصرار العائلة على تركها بجوار مكبّ النفاية فعمال البلدية معتادون على التعامل مع جثث القطط، رفضت ولجأت لجدي، حاول إقناعي بتركها، لم أرضَ، وكعادتي يسبق دمعي كلماتي، فرضخ جدّي لرغبتي قائلا:” خلص امشي رح اعملا أحلى قبر”، وبعد أن أتممنا دفنها أسفل شجرة البرتقال و روينا التربة بماء كاف، قال لي ممازحا : “هي صارت ملكة القطط هلأ ازا عرفوا القطط انه صار قبرها قبر ملوك رح يجوا كلن يموتوا عنا بالحارة”.

منذ بضعة أيام ذهبت لزيارة قبر جدّي، جئته ببدن يرتجف، وحزن وشوق كبيرين، وبشتلة زهر لا أعرف اسمه أقنعني بها البائع بديلا للجوري، سلّمت عليه بصوت مرتجف وعينين دامعتين، قبل أن ينهكني الحزن فأجلس بجوار القبر.
هممت بتنظيف القبر من الأغصان والأوراق اليابسة، وأنا أحدثه بالكثير، وأنا أذرف الدمع الكثير، وقلبي يعتصر شوقا أكبر من أن ترويه كلمات أو تشرحه دموع.
رحت أحكي له عن كل ما أتذكّره، عن كل ذكرى تمكّنت مني منذ رحيله حتى هذا اليوم، كنت أضحك وأبكي معا، تماما كما كنت أضحك إذا جئته باكية فمازحني.
بعد قرابة النصف ساعة من البوح والدعاء والبكاء، تمالكت نفسي لأغرس شتلة الزهر، أمسكت المعول وضربته في التربة مرتين عبثا قبل أن أحدث أثرا، فسمعت صوته في أذني، وكما جئته شاكية باكية عشرات وربما مئات المرات في حياته، وجدتني – مجددا – أخرّ باكية بجوار القبر.
كنت أبكي وكأنني فقدته اليوم، أبكي وكأنني الآن فقط أوقن أنّه رحل، لملمت شتات نفسي بعد بضع دقائق، أعدت حمل المعول، وضربت ببأس أشد فنبَش شيئا من التربة، حفرت أكثر بقليل ثم غرست الشتلة وأنا أحدّثه:” لا تضحك علي بعرف ما خرجي لا احفر ولا أزرع، بس عبحاول على قد ما بعرف”، ورتّبت التربة وأنا أستعيد شعور طفلة الثالثة عشر عندما فخر بها جدها، قلت له:” بعرف انت بتحب الجوري بس ما لقيت شتلة جوري بحسن اشيلا لحالي”.
جاءت عائلة تركية لزيارة قبر في نفس المنطقة، كانت النساء ينتحبن ويولولن، رفعت رأسي لأنظر إليهم وأنا أهمس له:” ما بجوز هاد اللي عبيعملوه مو؟!”، وأتبعت:” ايه وانا هيك بعرف، ما بجوز”، وكأنه قد أجابني وكأنني الطفلة ذاتها التي تحاول أن تثبت له أنها تعرف.
جلست بجوار قبره نحو الساعة والنصف، كنت أحدّثه وكأنه جالس هنا بجانبي، بيقين غريب أنه يسمعني ويفهمني، وبإيمان حتمي أنه لن يردّ وإن سمع وفهم، لكن ذاكرتي كانت تجيبني كلّما طرحت سؤالا، بكيت وحادثته كثيرا، حتى شعرت أن الحزن انقضى، وظننتُ أني بتّ قادرة على العودة إلى البيت، خرجت من المقبرة وركبت الباص، وما إن تحرّكنا حتى أجهشت بالبكاء، وعلمتُ حينها أن الحزن لم ينقضِ.

رحمه الله..

تعليقان (2) على “زيارة جدّي

  1. رحمه الله.
    وأنا بكيت وأنا أقرأ ما كتبته، وأبكي في كل مرة أذكر فيها أن أعواما مضت دون أن أراه.

    جعل الله قبره روضة من رياض الجنة.
    * مكتوب اسمه على القبر؟ لأني ما شفت حجر، فقط خشبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.