زمزم ..

هنا .. على مقربة من ” وطني ” .. هذا الوطن الذي يقتلني فراقه .. أجدني أحتضن ” زمزم ” .. تلك الفتاة التي جلست في المقعد الأخير .. منكمشة على نفسها .. لا تُقرأ في ملامحها حكاية .. تتابعني بنظراتها وفمها مغلق لا تنبس ببنت شفة .. لم ترفع يدها أبدا .. لم تردد معي ” أنا طفل ومن حقي أن أعبّر عن ذاتي بحرية .. من حقي أن أُسمع .. من حقي أن أتعلم تعليما صحيحا .. ومن حقي أن آخذ حقوقي ” .. لاحظت أن ” زمزم ” امت نعت حتى عن الابتسام .. حكايتها اختبأت فيها .. علّقتها خلف الرموش وتعمدت أن ترفّ رمشها سريعا حتى لا يغافلها ملخّصُ الحكاية وينطلق خارجا يحكي عن جوع يكاد يقتلها .. جلست زمزم تتابعني بعينيها .. أو ربما كانت قد علّقت عليّ أحلاما .. حلمت أنني سأقتل باغيها من الجوع القاتل ولو لليوم فقط .. حلمت أنني سأوصل صوتها .. أو ربما هي فقط كانت تسايرني لترتاح مني عقب دقائق .. قبيل الخروج أو حتى النهوض عن المقاعد نظرتُ إليها طويلا .. وبحركة أقرب ما تكون إلى اللاإرادية وضعت أصابعي على خديّ مبتسمة طالبة منها بصمت أن ترمي حزنها .. جرحها .. كسرها .. وربما رماد طفولتها وراء ظهرها وتشاركني بابتسامة حتى ولو كانت ” مسايرة ” .. لكنها لم تفعل .. نهض الجميع وخرجوا مسرعين إلى الركن التالي .. أما زمزم فنهضت بتثاقل .. أومأت لها أن تأتي إليّ .. سألتها : شبك زعلانة ؟ .. زمزم : مالي زعلانة .. طيب ليش متدايئة ؟ .. مالي متدايئة !! .. طيب شبك ؟ .. مافي شي بس بطني عم توجعني .. ليش ؟ فيك شي مرضانة ولا بس هيك ؟ .. لا لا بس جوعانة .. ” صُعقت .. نعم أنا صعقت .. لم يخطر ببالي أبدا أن هذه الطفلة التي استطاع والديها إيواءها تحت سقف من اسمنت كان أو حتى من حديد ستقاسي جوعا يفسد عليها فرحة يومها ” .. طيب خدي من هدول الحلويات , اختاري وحدة .. لا مابدي , هدول بمرض بعدن ، بتعب .. ” نظرت إليها متعجبة ” .. بدي بس لو خبزة وزيت .. ” مرة أخرى لم أتوقع أن ترفض هذه الطفلة الحلويات خوفا من ألا تشبع ” .. زمزم كانت تبكي .. طلبت مني الخبز والزيت وهي غارقة بالدموع .. مخفضة صوتها ورأسها معه .. ومتمتمة بطلبها ” خجلا ” أو ربّما ” عِزّة ” .. أمسكت وجهها الصغير بين بكفّي ونظرت في عينيها .. سألتها : حبيبتي شو اسمك ؟ .. زمزم .. كم عمرك ؟ .. تمانة .. طيب حبيبتي خلص لا تبكي هلأ رح جبلك أكل .. لم أسمح لزمزم بعدها بمغادرة صفي .. لم أترك لها المجال لمفارقتي حتى انتهاء اليوم .. جلست زمزم معي في الفصل .. أكلت وشربت .. واستمعت إلى الدرس الذي لم تعي منه كلمة مع صديقاتها لتفهمه مع كل قضمة أكثر .. أُطلقت الصافرة .. واتجه الأطفال إلى ” الباحة ” .. وأنا وزمزم لازلنا في الفصل .. أو ” للحق ” كنت أنا ألملم حاجاتي وزمزم كانت تقف على مقربة مني تنظر إلي .. انتهيت والتفت لأكتشف أنها لم تخرج مع باقي الطلّاب .. شو زمزم ؟ كيف صارت بطونك هلأ !! .. ابتسمت زمزم وهمست كتير منيحة .. تعي هاتي بوسة .. ” زمزم لم تقترب مني لتعطيني القبلة .. زمزم تعلقت برقبتي .. دفنت وجهها فيّ وأجهشت بالبكاء .. ” .. استطعت أن أتماسك عندما بكت هي أول مرة .. وعندما بكت هذه المرة لم أجد حلا إلا أن أسحبها إلى الوراء قليلا وأقول لها : بتعرفي ! .. أنا ماعندي اخت .. تعي نطلع عالباحة انا وانت متل الاخوات .. أمسكت بيدي وخرجنا .. جلست هناك تنتظر دورها لتذهب إلى الباص .. وكلما نظرت إليها ابتسمت لي تماما كما كنت ابتسم لها في الفصل ..

دانة عكل

 29 – 10 – 2012

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.