سَـحَـرْ ..

في المقهى ذاته .. مقهى العمرين الذي يقع في زاوية الشارع غير الممهد .. المقهى ذو الكراسي الخشبية .. ذو الكؤوس الزجاجية والفناجين ” التقليد ” المذهبة .. فيهذا المقهى جلس .. يدني فنجان قهوته من أنفه .. ويستنشقها من خلال رائحة القهوة .. يرتشف قهوته ليلتهمها مع آثار ” الطحل ” المنجرفة مع كل رشفة .. في ذاك المقهى .. كان يجلس ليستعيد أحرفها .. لينسق نظراتها وأفعالها مع صوتها وكأنه شريط مسجَّلٌ .. مخلـَّدٌ .. لذكرى في الماضي .. لزهور حبٍ في ربيع .. لالتهاب أشواق في شتاء .. لندى عشق في صيف .. ولكسوة وفاء في خريف .. لذكرى في شيء من طيات زمانه .. وزمانها .. ويعود ليستنشقها .. ليلتهمها .. ليغلغلها فيه .. ليثبت لروحه بأنها ليست ” قصصا منسية ” .. بأنه ليس من ” أسرى مبارح ” .. وأنه ليس من ” ننطر بكرة ليلية ” .. بأنه فقط مؤمن بأن مامن قصة ستكتب اسمه وتمحيه.. بأنه بعدها ليس عنده لحن ليغني .. وبدون قوامها لن يتراقص شيء من هذا الكون.. لا أغصان أشجار .. لا ستائر شرفة .. لا جدائل أنثى .. فمن بعدها لن يكون فيالكون أنثى .. وكيف سيكون والكون عنده حولها يتمحور .. تتوسطه ويتبلور .. تحتضنه فيتعطر .. كيف والكون عنده شمس ثغرها .. قمر وجهها .. مطر عينيها .. سحب رموشها .. كيف والكون هي .. وهي الكون .. يتذكر رقصتهما الأولى .. كانت ترتجف عشقا .. وكان يطوقها بشدة .. عشقا أيضا .. همس لها : صلي معي لله أن يرزقنا بكرًا بنتا .. لأسميها سحـَر .. همست : سأصلي .. وسأصلي بأن يجعل كل حزن في حياتنا ورقة شجر .. نسقطها عن أشجارنا إذا القلب بالبرد شعر .. سأصلي أن يكون لنا فرح .. عشق .. وأجمل الجميل من خبايا القدر .. وتذكر خلافهما الأول .. قال وقالت .. اعترض فتذمرت .. غضب فتسمرت .. علا صوته فانطلقت منها دموع يلين لها الحجر .. وتذكر باقة الورد التي ” راضاها ” بها .. تذكر بأنه نوى أن يركع على ركبته ليقول آسف ويعطيها الورد .. وتذكر بأنها ما إن هم بالركوع حتى صرخت : حبيبي لا تركع .. مافعلته آلمني .. ولكن إن تركتك تركع فالحب على قلوبنا بعد لن يتجَـبَّـر .. تذكر خطوات سحـَر الأولى .. بينه وبينها .. وهي تردد بقلق : الله يحميك .. وهو يغني : داده يالله يالله .. داده يحميها الله .. وعلا صوته .. رددها وهو جالس على الرصيف أمام المقهى .. وصدره في داخله الجرح والألم والعويل اعتصر .. وتذكر بأنه منذ عامين جاء إلى هنا .. بعدما كان القبر قد حفر .. وودعها ودفنها .. واحتضن ابنته عند السَّـحـَر ..

دانة عكل

19 – 6 – 2012

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.