اللهم ارحمه واغفر له، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، واغسله بالماء والثلج والبرد.
شارفنا على ستة أعوام منذ وفاته، مضت سريعاً كلمح البصر.
يقال أن الإنسان يستجلي ويشعر بدنو الأجل، فكيف كان يشعر أبي وقتها؟ على الرغم من إصابته بالمرض العضال وتجاوز سنه للسبعين، لم يكن ليستسلم للمرض بسهولة. وبقي متفائلاً متقبلاً وصابراً حتى إذا عاد من العمرة سقط طريح الفراش وأُدخل العناية.
كنا قد تعودنا على التناوب في جلوسنا معه لعله يستأنس بوجودنا. فهو رغم عدم قدرته على الكلام كان يواصل الحديث والسؤال ما استطاع لعله يظفر بنقاش أخير.
وأخي محمود -جزاه الله عنا كل الخير- كان يعلم ما يلزم الوالد وكم كان يحبه فكان يأخذ القدر الأكبر من الوقت للجلوس معه والقراءة له.
تلك الليلة الباردة يوم (20) من شهر ديسمبر 2014م كان دوري في الفترة المسائية فذهبت ومعي جهازي المحمول لأتمم بعض الأعمال هناك. جلست وبعد أن تأكدت أنه لا يود الحديث، توجهت إلى الطاولة الجانبية في الغرفة لأبدأ العمل، لكن بعد سويعات كنت بدأت بالترنح من النعاس. عندها قمت أنظر لعله استقيظ فأتبادل معه آخر الأخبار، وقد كان ينظر إلي كمن يريد شيءً. حاولت ان أفهم بعض الحروف لعلي أستطيع فهم ما يريد دون جدوى، فبدأت أعدد المتاح: ماء؟ قناع التنفس يضايقك؟ أأرفع لك ظهرك؟ أتريد تغيير وضعية السرير أو أن تكون على جنبك؟ هل أشغل التلفاز؟ حتى لم يبق شيء وظهرت عليه آثار الانزعاج.
لم أشعر بقلة الحيلة في حياتي كما شعرت في تلك اللحظة، فلم أستطع فهم ما يريد ومن الواضح أنه يريد شيئاً في ذلك الوقت المتأخر. كانت الساعة تجاوزت منتصف الليل وقد أمال رأسه إلى الوراء والألم بادٍ على محياه، فاستدعيت الممرضة لتتأكد من جرعة المسكن وأكدت لي أن الأمور كما يجب، لكني كنت أحس بشيء، شيء جعلني أترك العمل الذي معي وأجلس على السرير بجانبه أحاول أن أدرك كيف يمكن أن أعرف ما يبغي.
إنه الفجر، لا، الساعة الثانية لكن كيف؟أغفوت؟ نعم كان ذلك لنصف ساعة تقريباً، لا بأس فلأحاول مرة أخرى عسى أن أعرف ما يريد أبي. نظرت إليه وتسمّرت مع دخول الممرضة إلى الغرفة، لقد أدركت وقتها أن الذي أيقظني هو صوت الجهاز يعلن الوفاة. للحظة لم أستطع الوقوف، ثم قمت طالباً منها استدعاء الطبيب المناوب وقامت هي بتنفيذ طلبي على الرغم من معرفة كلينا بعبثية الأمر.
لا زال الأمر يقتلني ألماً، فلم أعلم يقيناً مالذي أراده، والأسوأ أن أعلم يقيناً أنه كان يطلبني تلك اللحظات الأخيرة وأنا ……………………………..
حبيبي كنان، أتعلم أنّي كنتُ في بيتي في هامبورغ في تلك اللحظة مستيقظة لا أعرف ما بي ولا أقدر أن أنام؟
كنتُ أدور في الغرفة وأنا أفكّر، لم أكن قد سمعتُ صوت أبي لثلاثة أسابيع متتالية، بحسب ما أخبرتموني كان تحت تأثير المسكنات معظم الوقت. أفكّر فيكِ كثيراً في تلك اللحظات، كنتَ دائماً الأرقّ قلباً بيننا، ومن حظّك أنّ الله يأجرك من حيث لا تدري، كنتَ جواره إذ غادر إلى رحمة الله، وهذا يكفي.